"... نحن جاهزون للمواجهة وإلى أبعد حد، وإذا اختاروا المواجهة عليهم أن يتوقعوا المفاجآت". لم يكد يمر يومان على كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله هذا خلال مؤتمره الصحافي عقب عملية الوعد الصادق، حتى حان موعد المفاجأة الأولى، عند حوالى الساعة 8،45 دقيقة من مساء الجمعة الرابع عشر من تموز/يوليو 2006، حينها كان قائد المقاومة يتحدث في رسالة صوتية عبر قناة "المنار" فجاء الخبر اليقين على لسانه:
"المفاجآت التي وعدتكم بها، سوف تبدأ من الآن، الآن في عرض البحر في مقابل بيروت، البارجة العسكرية الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين، أنظروا إليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنود الإسرائيليين الصهاينة".
للبنانيين وأيضاً للعدو الإسرائيلي وللعالم كله كان كافياً أن تصدر هذه الكلمات عن الأمين العام لحزب الله حتى يصدقوا الخبر، ولكن بقي لصورة البارجة المحترقة التي بثتها وسائل الإعلام وقعها الكبير مع ما رفدته من معنويات عالية في نفوس اللبنانيين، خصوصاً النازحين عن منازلهم بفعل القصف الصهيوني.
أما الوقع الأكبر لتدمير البارجة فكان على ذلك العدو الذي شكل استهداف "حانيت" واحدة من المفاجآت المزعجة لقيادته، التي اضطرت للإقرار بأنها لم تكن على علم بتوافر الصاروخ الذي أصاب البارجة بأيدي حزب الله، والذي أثبت أنه قادر على تجاوز الدفاعات السلبية والإيجابية فيها. على أن تدمير البارجة شكل أيضاً منعطفاً حاداً في الحرب الإعلامية التي شنها حزب الله والتي أدت إلى تكريس انعدام الثقة بين الرأي العام الإسرائيلي وقادته.
بحسب المعطيات التي وردت في حينها فإن المقاومة استخدمت في استهداف السفينة صاروخاً يستند إلى تكنولوجيا صينية، وهو موجّه ذاتياً بالرادار بعد تحديد وجهة انطلاقه. وقد أصاب الصاروخ مهبط المروحية ومنه مهاجع الجنود في الطوابق السفلية. وبدا أن الضربة الصاروخية عطلت قدرة السفينة على الحركة وعلى توجيه نفسها، فقامت سفن البحرية الإسرائيلية طوال أكثر من 20 ساعة بمساعدتها من أجل جرّها وإبعادها عن الشاطئ اللبناني.
القراءة العسكرية لتدمير "حانيت"الخبير في الشؤون العسكرية العميد الركن المتقاعد د.امين حطيط اعتبر أن أهمية الحدث ومفاعيله تنبع من مدى تأثير السلاح في الميدان والمعركة، فالبارجة "ساعر 5" كانت مكلفة بمهمتين، الأولى مراقبة الشاطئ اللبناني لمحاصرته والثانية المساندة النارية واستهداف المناطق الآهلة في بيروت والضاحية الجنوبية، مشيراً إلى أن طمأنينة العدو الإسرائيلي إلى عدم وجود سلاح مركز على الشاطئ، قادته إلى الاقتراب إلى نقاط قريبة جداً منه، وهذا الاقتراب يمكنه من أمرين: مراقبة أدق ونيران ذات تأثير أفعل ما دام أن مسافة الرمي قصيرة.
انطلاقاً من هنا خلص حطيط إلى النتائج العسكرية المباشرة وغير المباشرة لتدمير المقاومة للبارجة، ففي المفاعيل المباشرة أُخرجت البارجة من الميدان، وهو ما خلق ثغرة في الحصار، حتى أن عملية استقدام بارجة أخرى تحتاج الى وقت يمكن الاستفادة منه لفك الحصار. كما أدى تدمير "حانيت" إلى إراحة منطقة جغرافية واسعة هي بيروت وضواحيها من المراقبة ومن النيران.
أما في المفاعيل غير المباشرة فيقول حطيط "إن اكتشاف وجود صواريخ أرض بحر أجبر أي بارجة بديلة والمراكب الأخرى على الابتعاد في عرض البحر لمسافة تخرج عن مدى التأثير الفعال للصاروخ، فالعلم بوجود صاروخ فرض تدابير وقائية أسفرت عن مراقبة أقل دقة وتراجع في فعالية النيران. وهو ما يعتبر خسارة عسكرية لا يمكن تجاوزها"، لافتاً إلى "مفاعيل معنوية خلقها تدمير البارجة إذ ان حالة الحذر التي يعيشها البحار في حال وجود خطر يواجهه يجعل مستوى أدائه العسكري منخفضاً".
ويتابع حطيط أن "تدمير البارجة شكل حدثاً ذا أهمية تكتيكية بالغة كونه أثر على منظومة المراقبة والنار تأثيراً بالغاً، وهو ما حمل العدو الاسرائيلي على اعادة ترميم المنظومة وحتى التوجه نحو منظومات أخرى لسد الثغرة التي نتجت عن تدمير "حانيت".
تدمير "حانيت": سقوط سلاح البحرية الإسرائيلية داخل الكيان الصهيوني لا تزال الضربة التي وجهتها المقاومة للبارجة تؤثر نفسياً على الجيش الإسرائيلي وسط تساؤلات المحللين والمراقبين عن جدوى إنفاق الجيش لعشرات ملايين الدولارات من أجل شراء سفن أخرى بعد أن استطاع حزب الله تدمير "ساعر 5" التي تعد مفخرة سلاح البحرية.
واعتبرت حادثة تدمير البارجة من أبرز الإخفاقات الإسرائيلية في حرب تموز، وهو ما استدعى إجراء تحقيق خلص إلى وجود خلل في المنظومة العسكرية والاستخباراتية وفشل انضباطي أدى الى تعطيل احدى قطع منظومة الإنذار الموجودة على متن السفينة، المفترض بها ان تشخص التهديدات في محيطها وتحدد رادارات صواريخ العدو". والخلل يتمثل في ان "ضابط الإلكترونيك لم يبلّغ قائد السفينة عن الخلل، وبقيت سفينة حانيت مكشوفة أمام التهديدات من دون تشغيل أنظمتها الدفاعية".
في نهاية التحقيق تم الاكتفاء بـ"توبيخ" خمسة من الضباط المعنيين، وهو ما اعتبرته مصادر في سلاح البحرية "عقوبات خفيفة جدا برغم نتائج التحقيق الخطيرة، التي كشفت عن أكثر من إخفاقات نظرية وعملية في السلاح".
ويرى المتخصص في الشؤون الإسرائيلية علي حيدر "أن مسألة "التوبيخ" تندرج في الإطار العلني أما الجانب السري للتحقيق فيشمل البحث في كيفية مواجهة استهداف حزب الله لسلاح البحرية الإسرائيلية لأن التجربة أثبتت أن المقاومة قادرة على أن تشكل خطراً على هذا السلاح بأكمله وليس فقط على "حانيت"، وخصوصاً أن المقاومة أعلنت تدمير سفينة أخرى لم يعترف بها العدو، فقد كان سيشكل اعترافه اعترافاً صريحاً بتدمير سلاح البحرية"، ومما قاله أحد المعلقين الإسرائيليين على إحدى قنوات التلفزة العبرية إن "حزب الله عندما ضرب هذه السفينة بالذات أسقط سلاح البحرية الإسرائيلية بأكمله".
ويضيف حيدر "أن ما شكل مفاجأة استخباراتية وعملياتية للإسرائيلي هو أن يأتي عنصر المبادرة من المقاومة في استهداف سلاح البحرية"، مفنّداً "مزاعم العدو بأن سبب تدمير البارجة ناجم عن عدم تشغيل جهاز النظام المضاد للصواريخ، إذ أنه بعد ضرب البارجة تراجعت جميع القطع البحرية الإسرائيلية التي كانت توجد قبالة الشاطئ اللبناني، وهو ما يؤكد عدم معرفة الإسرائيلي مسبقاً بوجود هذا النوع من الأسلحة القادرة على استهداف سلاح البحرية بحوزة المقاومة".
"حانيت" كانت البداية وبعدها توالت مفاجآت المقاومة، من حيفا إلى ما بعد حيفا إلى قصف طائرة الهليكوبتر الى المواجهات الميدانية البطولية، إلى مجزرة الميركافا... ويوماً بعد آخر كانت المفاجأت تكرس معادلات جديدة، ليتضح في خلاصة التحقيقات التي أجريت حول إخفقات الحرب، أن العقبات التي واجهها جيش العدو لم تكن فقط متعلقة بالناحية اللوجستية وإنما اتسعت لتشكل إخفاقاً استخباراتياً شاملاً في فهم الواقع اللبناني بل في إدراك قوة المقاومة وقدرتها على التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية.